ولادة في الوادي- قصة كحلة بين الدلال والضياع
المؤلف: علي بن محمد الرباعي08.10.2025

سارت المرأة إلى المرعى مع بزوغ الفجر، تصحب أغنامها في خلوة. شعرت بوطأة آلام المخاض تتملكها، ولا معين لها إلا الله عز وجل. فتوكلت على خالقها. هبطت إلى وادٍ يتدفق بالماء الغزير. أخرجت من قفتها منجلها الحاد. وشرعت تقطع الحشائش الندية وأغصان العِثْرَبْ اليافعة. فاجأها المخاض بجوار جذع شجرة مشمش عتيقة. وجهت بصرها شطر جدار متوارٍ، كي لا يراها ناظر.
لم يمضِ غير قليل من الوقت. حتى انطلق وليدها الذكر إلى العالم بقدميه الصغيرتين. تناولت منجلها البتار. وقطعت الحبل السري وربطته بعناية. حملت وليدها بين يديها وسمت باسم الرحمن الرحيم. غسلته بماء الغيل المتدفق. ولفته في قطعة قماش كانت معها، ثم وضعته بحنان فوق الخُلاصة. ورحلت به إلى بيتها قبل أن تلفح شمس الصباح الحارقة. ويكشف سرها الذي أباحه القدر للناس.
كان الزوج مستلقياً بجوار الموقد. يفرك عينيه المتعبتين من شدة النعاس. دخلت عليه وهي تحمل قفتها. فصاح متعجباً (ما هذا الذي تحملينه في قفتك هذه). أنزلتها وأخرجت وليدها. كاد الأب يفقد صوابه من فرط الدهشة والفرح. تناول منها (عطية الله) الثمينة، بينما كانت هي تعد لنفسها فراشاً وثيرًا. بادر الزوج إلى إشعال النار. وصنع إبريقاً من القرفة العطرة. وأخذ تمرة من صندوق قديم مركون في زاوية البيت. حنّك بها مولوده المبارك. وأوصى الأم ألا ترضعه حتى يسري مفعول التمرة في عروقه الصغيرة. ليكون كلامه عذباً كالشهد.
كان هذا الوليد سعيداً بين أقرانه لأنه كان وحيد أمه المدلل. لا يستيقظ إلا في الضحى بعد أن تعد له أمه فطوره الشهي، بينما يذهب معظم رفاقه إلى المدرسة من بيوتهم وهم جياع. لم يهتم بالتعليم. ولم يكن من الطلاب المجتهدين. كانت لديهم عنزة مصرية بيضاء تدر الحليب بوفرة. وتلد في السنة مرتين أو ثلاثًا من الماعز الصغير. كما أن الدجاجات الحمراوات كانت تبيض يومياً بيضاً عربياً لذيذاً. وأكياس القمح كانت مصفوفة فوق بعضها البعض في المخزن الواسع. وكان لدى الأب تجارة رابحة تعود عليهم بالخير الكثير. فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ترعرع وليد الوادي في كنف الدلال والنعيم. ظهرت حول عينيه هالة سوداء طبيعية. لم ينجح في دراسته. وانجذب إلى اللهو والتسكع. كان دائم المشاكل. ويفتعل كل يوم خصومة مع زملائه وجيرانه. وعندما يغضب منه الصغار من جيرانه يرددون بصوت واحد «يا بو كحلة يا حبيب أمه».
مات الأبوان المسنان. وتلاشى الإرث الثمين. وأراد يوماً أن يلفت انتباه جارته إلى ساعته الثمينة وخاتمه الفاخر. فقال وهو يحرك يده المترفة (لماذا لا تسألين عني). فردت عليه ببرود (ولماذا أسأل عنك يا مكحّل العينين). هذا ما لدي والله يسلمكم.